صدرت رواية حديث عيسى بن هشام عام 1907م، حيث وظف المويلحي راوي مقامات بديع الزمان الهمذاني في الرواية لتكون منارة في أدب اللغة العربية. إن هذه الرواية، التي يعتبرها البعض من أولى الأعمال الحديثة في هذا النوع، أكثر من مجرد قصة بسيطة، بل هي مزيج من البحث الفلسفي والتعليق الاجتماعي واستكشاف جذاب للهوية في عالم متغير بسرعة.
حديث عيسى بن هشام – والبحث عن الهوية
تتكشف السردية من خلال عيون بطل غير مسمى، شاب مصري يتصارع مع تعقيدات زمانه، زيارة إلى مقبرة في القاهرة تأخذ منعطفًا غير متوقع حينما يصادف شخصية غريبة عيسى بن هشام. يدعي أنه باشا عثماني من القرن السادس عشر مقيم، يجذب عيسى البطل إلى عاصفة من النقاشات الفلسفية ورحلات عبر القارات. حيث تتحول رحلاتهم إلى خشبة مسرح لحوار عميق بين الشرق والغرب. عيسى، نتاج لعظمة الإمبراطورية العثمانية، يجسد وجهة نظر إسلامية تقليدية. البطل، من جهة أخرى، يمثل الهوية المصرية الناشئة التي تتكاتف لمواجهة تراثها الغني مع تأثيرات الاستعمار الأوروبي المتزايدة. تتمحور مناقشاتهم حول مزايا وعيوب كل من الثقافات، محرضة على التفكير النقدي في التحديث، والهياكل الاجتماعية، والقيم الدينية.
استخدم المويلحي ببراعة إطار الرواية لتقديم تعليق اجتماعي ساخر على مصر في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. يشهد البطل وعيسى بأنفسهم الفساد المستشري في الحكومة، والفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، وتآكل القيم التقليدية، وخصص فيه فصلا للعمدة الذي يمتلك الأطنان كيف يأتي إلى حانة قاهرية وتستلب منه الأموال بعد أن يستلب منه الدين، وبالتالي صارت مصر في ذلك الوقت الدجاجة التي تبيض ذهبا للأجانب وصار المصريون كأنهم عبيد يدفعون رفاهية الدول الغربية.
وفي مايلي مقتطف من حوارات العمدة من رواية حديث عيسى بن هشام :
العمدة : أنصدِّقك في وجود العوض وقد أخلفتَ وعدك معنا في هذه الحديقة، وآذن الليل بالدخول وليس في اليد شيء من الصيد؟
الخليع : صدِّقني بالله، فإني ما كنت أعلم بما أصاب الحديقة من أمر الحكومة؛ لأنني كنت مقيمًا بحلوان مدة طويلة، وجئت وأنا أحسبها على حالها الأول، ولكنني قد رتبت لك الآن سهرة في فكري تفوق في حسنها كل سهرة مضت، فإني أعرف صاحبًا لي أخبرني عن بَيْضة خدر من بيت فلان باشا، فقوموا بنا وأنا أذهب للحصول عليها هذه الليلة بما يمكن من الحيل، وسأكتم عنها أمرَكما إلى أن تصير معي في الموضع الذي أختاره، ثم أرسل إليكما من هناك بمن يأتيني بكما، فيكون دخولكما على حين غفلة، فلا تستطيع الاختفاء ثم تضطر إلى البقاء في مكانها، وحينئذٍ يدور بنا المجلس معها دورة الأنس والسرور، ولكن لا أخفي عنكما أن مقدار ما معي من الدراهم الآن لا يكفي لإعداد معدَّات هذا المجلس، وأخشى إن أنا ذهبت إلى البيت لآخذ دراهم أخرى أن يمنعني أهلي من الخروج ثانية، كما هي العادة عند النساء في التضييق على الرجال.
العمدة : لا عليك فعندي من الدراهم ما يكفي وزيادة.
قال عيسى بن هشام: وقاموا في الحال للسعي وراء اللهو والمجون، وقام الباشا يسحبني وراءهم للعلم بما سيكون.
البطل الذي يتعرض باستمرار لأفكار جديدة ويواجه انحدار عالمه المألوف، ينطلق في بحث شخصي عن المعنى، وعيسى الذي كان في البداية مصدرًا للحكمة وجسرًا إلى الماضي، يصبح في نهاية المطاف لغزًا بنفسه.
يعتبر أسلوب المويلحي سرديًا مثيرًا يستخدم أسلوبًا ذكيًا وممتعًا، يشد القارئ بملاحظاته الحادة حول سلوك الإنسان والتفاعلات الاجتماعية. الحوار بين البطل وعيسى يستحق الاهتمام بشكل خاص، حيث يعرض قدرة الكاتب على إضفاء الحياة على شخصيات ذات منظورات مختلفة، تنقل وصفات المويلحي الحية القارئ إلى شوارع القاهرة الصاخبة، والمناظر الطبيعية الأوروبية الهادئة، والحدود الداخلية لعقول الشخصيات.
تكمن أهمية رواية “حديث عيسى بن هشام” ليست فقط في قصته الجذابة ولكن أيضًا في دورها الريادي في تطوير الرواية العربية. قطع المويلحي عن التقليد المُثبَت للسجلات التاريخية والقصص الأخلاقية. اعتنق هيكل سردي أكثر تعقيدًا، يتعمق في الواقعيات النفسية لشخصياته ويعزز المشاركة النقدية مع القضايا المعاصرة.
تظل رواية حديث عيسى بن هضام موردًا قيمًا لفهم المجتمع المصري خلال فترة حاسمة. تقدم نظرة فاحصة على قلق وتطلعات أمة تتصارع مع التحديث وسحر القيم الغربية. تترنح المواضيع الزمنية للهوية والتبادل الثقافي والبحث عن المعنى مع القراء عبر الأجيال والحدود الجغرافية، حيث يمكن للقراء دراسة الأسس الفلسفية للمحادثات بين البطل وعيسى. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يقدم نظرة أقرب إلى تصوير المرأة والطبقات المهمشة توجيهات قيمة حول النسيج الاجتماعي في مصر في ذلك الوقت.
